فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعائده محذوف أي: أي شيء الذي كنتم تعملونه.
{ووقع القول} أي: وجب العذاب الموعود {عليهم بما ظلموا} أي: بسبب ما وقع منهم من الظلم من صريح التكذيب وما ينشأ عنه من الضلال في الأقوال والأفعال {فهم لا ينطقون} قال قتادة: كيف ينطقون ولا حجة لهم نظير قوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات).
وقيل: لا ينطقون لأن أفواههم مختومة، ثم إنه تعالى لما خوّفهم بأحوال القيامة ذكر كلامًا يصلح أن يكون دليلًا على التوحيد والحشر وعلى النبوّة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال.
{ألم يروا} مما يدلهم على قدرتنا على بعثهم بعد الموت وعلى كل ما أخبرناهم به {أنا جعلنا} أي: بعظمتنا الدالة على نفوذ مرادنا وفعلنا بالاختيار {الليل} أي: مظلمًا {ليسكنوا فيه} عن الانتشار {والنهار مبصرًا} أي: يبصر فيه ليتصرفوا فيه ويبتغوا من فضل الله فحذف من الأوّل ما ثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما ثبت نظيره في الأول إذ التقدير جعلنا الليل مظلمًا كما مرّ ليسكنوا فيه والنهار مبصرًا ليتصرفوا فيه كما مرّ فحذف مظلمًا لدلالة مبصرًا وليتصرفوا لدلالة لتسكنوا فيه وقوله تعالى: {مبصرًا} كقوله تعالى: {آية النهار مبصرة} وتقدم الكلام على ذلك في الإسراء.
قال الزمخشري فإن قلت ما للتقابل لم يراع في قوله تعالى: {ليسكنوا} و{مبصرًا} حيث كان أحدهما علة والآخر حالًا؟ قلت: هو مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف لأنّ معنى مبصرًا ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب، وأجاب غيره بأنّ السكون في الليل هو المقصود ولأن وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية {إن في ذلك} أي: هذا المذكور {لأيات} أي: دلالات بينة على التوحيد والبعث والنبوّة وغير ذلك وخص المؤمنين بقوله تعالى: {لقوم يؤمنون} لأنهم المنتفعون به وإن كانت الأدلة للكل كقوله تعالى: {هدى للمتقين}.
ولما ذكر تعالى هذا الحشر الخاص والدليل على مطلق الحشر ذكر الحشر العام بقوله تعالى: {ويوم ينفخ} أي: بأيسر أمر {في الصور} أي: القرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام {ففزع} أي: فصعق كما قال تعالى في آية أخرى: {فصعق} (الزمر) {من في السموات ومن في الأرض} أي: كلهم فماتوا والمعنى أنه يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا، وقيل: ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين، فإن قيل: لم قال الله تعالى ففزع ولم يقل فيفزع؟
أجيب: بأنّ في ذلك نكتة وهي الإشعار بتحقيق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة واقع على أهل السموات والأرض لأنّ الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعًا به، والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون {إلاّ من شاء الله} أي: المحيط علمًا وقدرة وعزة وعظمة أن لا يفزع.
روي أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عنهم فقال هم الشهداء يتقلدون أسيافهم حول العرش وعن ابن عباس هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم، وعن مقاتل: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، ويروى أنّ الله تعالى يقول لملك الموت خذ نفس إسرافيل ثم يقول الله تعالى من بقي يا ملك الموت فيقول سبحانك ربي تباركت وتعاليت بقي جبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول الله تعالى خذ نفس ميكائيل ثم يقول الله تعالى من بقي يا ملك الموت فيقول سبحانك ربي تباركت وتعاليت بقي جبريل وملك الموت فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول يا جبريل من بقي فيقول تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام، وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني قال يا جبريل لابد من موتك فيقع ساجدًا يخفق بجناحيه، فيروى أنّ فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم، ويروى أنه يبقى مع هؤلاء الأربعة حملة العرش ثم روح إسرافيل ثم روح ملك الموت، وعن الضحاك هم رضوان والحور ومالك والزبانية عليهم السلام وقيل: عقارب النار وحياتها {وكل} أي: من فزع ومن لم يفزع {أتوه} أي: بعد ذلك للحساب بنفخة أخرى يقيمهم بها وفي ذلك دليل على تمام قدرته تعالى في كونه أقامهم بما به أماتهم {داخرين} أي: صاغرين.
وقرأ حفص وحمزة بقصر الهمزة وفتح التاء على أنه فعل ماض ومفعوله الهاء فالتعبير به لتحقق وقوعه، والباقون بمد الهمزة وضم التاء على أنه اسم فاعل مضاف للهاء وهذا حمل على معنى كل وهي مضافة تقديرًا أي: وكلهم، ولما ذكر تعالى دخورهم أتبعه بدخور ما هو أعظم منهم بقوله تعالى: {وترى الجبال} أي: تبصرها وقت النفخة والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم لكونه أنفذ الناس بصرًا وأنورهم بصيرة أو لكل أحد {تحسبها} أي: تظنها {جامدة} أي: قائمة ثابتة في مكانها لا تتحرّك لأنّ الأجرام الكبار إذا تحرّكت في سمت واحد لا تكاد تتبين حركتها {وهي تمرّ} أي: تسير حتى تقع على الأرض فتسوى بها مبثوثة ثم تصير كالعهن ثم تصير هباءً منثورًا، وأشار تعالى إلى أن سيرها خفي وإن كان حثيثًا بقوله تعالى: {مرّ السحاب} أي: مرًّا سريعًا لا يدرك على ما هو عليه لأنه إذا أطبق الجوّ لا يدرك سيره مع أنه لا شك فيه وإلالم تنكشف الشمس بلا لبس وكذلك كبير الجرم أو كثير العدد يقصر عن الإحاطة به لبعد ما بين أطرافه ولكثرته البصر والناظر الحاذق يظنه واقفًا.
وقرأ تحسبها بكسر السين نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وفتحها الباقون وقوله تعالى: {صنع الله} مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله أضيف إلى فاعله بعد حذف عامله، أي: صنع الله ذلك صنعًا، ثم زاد في التعظيم بقوله دالًا على تمام الإحكام في ذلك الصنع {الذي أتقن} أي: أحكم {كل شيء} صنعه ولما ثبت هذا على هذا الوجه المتقن والنظام الأمكن أنتج قطعًا قوله تعالى: {إنه} أي: الذي أتقن هذه الأمور {خبير بما يفعلون} أي: عالم بظواهر الأحوال وبواطنها ليجازيهم عليها كما قال تعالى: {من جاء بالحسنة} أي: الكاملة وهي الإيمان، وعن ابن عباس الحسنة كلمة الشهادة {فله خير} أي: أفضل {منها} مضاعفًا أقلّ ما يكون عشرة أضعاف إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وقيل له خير: حاصل من جهتها وهو الجنة وفسر الجلال المحلي الحسنة بلا إله إلا الله، وقال في {فله} خير منها، أي: بسببها فليس للتفضيل إذ لا فعل خير منها وهذا يناسب القول الثاني {وهم} أي: الجاءون بها {من فزع يومئذ} أي: يومئذ إذ وقعت هذه الأحوال العظيمة {آمنون} أي: حتى لا يحزنهم الفزع الأكبر.
وقرأ يفعلون ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالياء التحتية على الغيبة، والباقون بالفوقية على الخطاب، وقرأ وهم من فزع يومئذ آمنون الكوفيون بتنوين العين، والباقون بغير تنوين وهم أعمّ فإنه يقتضي الأمن من جميع فزع ذلك اليوم، وأمّا قراءة التنوين فتحتمل معنيين من فزع واحد وهو خوف العذاب، وأمّا ما يلحق الإنسان من الرعب ومشاهدته فلا ينفك منه أحد، ومن فزع شديد مفرط الشدّة لا يكتنهه الوصف وهو خوف النار، وقرأ نافع والكوفيون: بفتح الميم من يومئذ والباقون بكسرها فإن قيل: أليس قال تعالى في أوّل الآية: {ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} (النمل) فكيف نفى الفزع ههنا؟
أجيب: بأنّ الفزع الأوّل لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع أو هول يفجأ إلا ما استثنى وإن كان المحسن آمنًا من لحاق الضرر، وأما الثاني فهو الخوف من العذاب.
{ومن جاء بالسيئة} أي: التي لا سيئة مثلها وهي الشرك لقوله تعالى: {فكبت} أي: بأيسر أمر {وجوههم في النار} بأن وليتها مع أنه ورد في الصحيح أنّ مواضع السجود التي أشرفها الوجه لا سبيل للنار عليها والوجه أشرف ما في الإنسان فإذا هان كان ما سواه أولى بالهوان، والمكبوب عليه منكوس ويقال له تبكيتًا {هل} أي: ما {تجزون إلا} جزاء {ما كنتم تعملون} أي: من الشرك والمعاصي.
تنبيه:
جعل مقابلة الحسنة بالثواب والسيآت بالعقاب من جملة أحكامه للأشياء وإتقانه لها وإجرائه لها على قضايا الحكمة إنه عليم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه فيكافئهم على حسب ذلك فانظر إلى بلاغة هذا الكلام وحسن نظمه وترتيبه، وأخذ بعضه بحجزة بعض كأنما أفرغ إفراغًا واحدًا ولأمر ما أعجز القوى وأخرس الشقاشق والادعاء، ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه.
{إنما أمرت} أي: بأمر من لا يردّ له أمر {أن أعبد} أي: بجميع ما آمركم به {رب} أي: موجد ومدبر {هذه البلدة} أي: مكة التي تخرج الدابة منها فيفزع كل من رآها ثم تؤمن أهل السعادة أخصه بذلك لا أعبد شيئًا مما تعبدونه {الذي حرّمها} أي: جعلها الله تعالى حرمًا آمنًا لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلي خلاها ولما خصص مكة بهذه الإضافة تشريفًا لها وتعظيمًا لشأنها قال احترازًا عما قد يتوهم {وله كل شيء} أي: من غيرها مما أشركتموه به وغيره خلقًا وملكًا: ولما كانوا ربما قالوا نحن نعبده بعبادة من نرجوه يقرّبنا إليه زلفى، عين له الدين الذي تكون به العبادة بقوله: {وأمرت} أي: مع الأمر بالعبادة له وحده {أن أكون} أي: كونًا هو في غاية الرسوخ {من المسلمين} أي: المنقادين لجميع ما يأمر به كتابه أتمّ انقياد ثابتًا على ذلك غاية الثبات.
{وأن} أي: وأمرت أن {أتلو القرآن} عليكم تلاوة الدعوة إلى الإيمان، أو أن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئًا فشيئًا {فمن اهتدى} أي: باتباع هذا القرآن الداعي إلى الجنان {فإنما يهتدي لنفسه} أي: لأجلها لأنّ ثواب هدايته له {ومن ضلّ} أي: عن الإيمان الذي هو الطريق المستقيم {فقل} أي: له كما تقول لغيره {إنما أنا من المنذرين} أي: المخوّفين له عواقب صنعه فلا عليّ من وبال ضلاله شيء إذ ما على الرسول إلا البلاغ وقد بلغت.
{وقل} أي: إنذارًا لهم وترغيبًا وترجئة وترهيبًا {الحمد} أي: الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} أي: الذي له العظمة كلها على نعمة النبوّة وعلى ما علمني ووفقني للعمل به {سيريكم آياته} القاهرة في الدنيا كوقعة بدر وخروج دابة الأرض وفي الآخرة بالعذاب الأليم {فتعرفونها} أي: فتعرفون أنها آيات الله ولكن حين لا تنفعكم المعرفة.
{وما ربك} أي: المحسن إليك بجميع ما أقامك فيه من هذه الأمور العظيمة والأحوال الجسيمة.
{بغافل عما تعملون} أي: فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم، وقرأ نافع وابن عامر وحفص: بالتاء على الخطاب لأنّ المعنى عما تعمل أنت وأتباعك من الطاعة وهم من المعصية، والباقون بالياء على الغيبة وما رواه البيضاوي تبعًا للزمخشري: من أنّ من قرأ طس كان له من الأجر عشرة حسنات بعدد من صدق سليمان وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلا الله، حديث موضوع. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)}.
ثم ذكر سبحانه طرفًا مجملًا من أهوال يوم القيامة.
فقال: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجًا} العامل في الظرف فعل محذوف خوطب به النبيّ صلى الله عليه وسلم، والحشر الجمع.
قيل: والمراد بهذا الحشر هو حشر العذاب بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق، و{من} لابتداء الغاية، والفوج: الجماعة كالزمرة، ومن في {مّمَّن يُكَذّبُ بئاياتنا} بيانية {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يحبس أوّلهم على آخرهم، وقد تقدّم تحقيقه في هذه السورة مستوفى، وقيل معناه: يدفعون، ومنه قول الشماخ:
وسمه وزعنا من خميس جحفل ومعنى الآية: واذكر يا محمد يوم نجمع من كل أمة من الأمم جماعة مكذّبين بآياتنا فهم عند ذلك الحشر يرد أوّلهم على آخرهم، أو يدفعون أي اذكر لهم هذا، أو بينه تحذيرًا لهم، وترهيبًا.
{حتى إِذَا جَاءُوا} إلى موقف الحساب قال الله لهم توبيخًا، وتقريعًا: {أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي} التي أنزلتها على رسلي، وأمرتهم بإبلاغها إليكم والحال أنكم {لَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْمًا} بل كذبتم بها بادىء بدء جاهلين لها غير ناظرين فيها، ولا مستدلين على صحتها، أو بطلانها تمرّدًا، وعنادًا، وجرأة على الله وعلى رسله، وفي هذا مزيد تقريع وتوبيخ؛ لأن من كذب بشيء، ولم يحط به علمًا فقد كذب في تكذيبه، ونادى على نفسه بالجهل وعدم الإنصاف، وسوء الفهم، وقصور الإدراك، ومن هذا القبيل من تصدّى لذمّ علم من العلوم الشرعية، أو لذمّ علم هو مقدّمة من مقدّماتها، ووسيلة يتوسل بها إليها، ويفيد زيادة بصيرة في معرفتها، وتعقل معانيها كعلوم اللغة العربية بأسرها، وهي اثنا عشر علمًا، وعلم أصول الفقه فإنه يتوصل به إلى استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية مع اشتماله على بيان قواعد اللغة الكلية، وهكذا كل علم من العلوم التي لها مزيد نفع في فهم كتاب الله، وسنة رسوله، فإنه قد نادى على نفسه بأرفع صوت بأنه جاهل مجادل بالباطل طاعن على العلوم الشرعية، مستحق لأن تنزل به قارعة من قوارع العقوبة التي تزجره عن جهله وضلاله وطعنه على ما لا يعرفه، ولا يعلم به، ولا يحيط بكنهه حتى يصير عبرة لغيره، وموعظة يتعظ بها أمثاله من ضعاف العقول، وركاك الأديان، ورعاع المتلبسين بالعلم زورًا وكذبًا.